سوريا بعد الأسد- تحديات التغيير، آمال المستقبل ووحدة الشعب.
المؤلف: جميل الذيابي10.29.2025

مع هروب الرئيس السوري السابق بشار الأسد، وانهيار الجيش الوطني، وسقوط مدن دمشق وحمص وحلب وحماة والسويداء وغيرها في قبضة الفصائل السورية المعارضة المسلّحة، طويت صفحة حاسمة من تاريخ سورية الحديث، تلك الحقبة التي امتدت لنحو ستة عقود تحت وطأة حكم نظام الأسد، الأب حافظ ثم الابن بشار. ومما لا ريب فيه، أن السوريين ونظامهم الجديد سيواجهون تحديات جسيمة، وعلى رأسها تحقيق الأمن والاستقرار، لتمكين الملايين من النازحين واللاجئين السوريين من العودة الآمنة إلى ديارهم وأهلهم وأراضيهم، الأمر الذي يستلزم جهوداً مضنية في البناء والإعمار والترميم. هذه الفترة، على الرغم من أهميتها البالغة وضرورتها القصوى، نأمل ألا تطول، خشية الانزلاق في صراعات ونزاعات وانقسامات داخلية وتدخلات خارجية غير محمودة العواقب.
شخصياً، تشرفت بلقاء بشار الأسد وجهاً لوجه ثلاث مرات على الأقل خلال فترة حكمه المديدة؛ وكانت إحدى هذه اللقاءات جلسة مطولة ومفصلة. وبعد المتابعة الدقيقة والشغوفة للشأن السوري، تيقنت أنه لم يكن الرجل المناسب للمرحلة منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، فقد اعتمد منذ بداية ولايته على تكليف أطراف أجنبية ودول أخرى للدفاع عن بلاده، التي تمتلك جيشاً قوياً وصلباً، سبق له أن واجه إسرائيل بشراسة في آخر الحروب العربية الإسرائيلية (1973). غير أن هذا الجيش، للأسف الشديد، انسحب أخيراً من جميع معاقله، حتى من المنطقة العازلة على الحدود مع إسرائيل. واليوم، بعد هروب الأسد، انفتحت أبواب عديدة وتكاثرت التكهنات والترجيحات بشأن مستقبل سورية الجديدة! ولعل الهاجس الأكبر هو أن تستغل قوى إقليمية أخرى حالة الفوضى السياسية والأمنية التي تعصف بسورية منذ هروب بشار وانهيار نظامه، واندثار أيديولوجية "البعث" البغيضة، وما انبثق عنها من "قومية" كريهة، اقتطعت من سورية المزيد من الأراضي!
من المؤكد والجلي أن هروب بشار وسقوط نظامه يمثل نهاية لعقود من المعاناة التي قاساها الشعب السوري من تسلط حزب "البعث" وقبضته الأمنية المحكمة التي ملأت السجون بالمعتقلين والمخفيين قسراً، وتسببت في ارتفاع مروع في أعداد القتلى في سجون النظام جراء التعذيب الممنهج. ولكي يستفيد الشعب السوري الأصيل من شعارات ثورته المباركة التي انطلقت في عام 2011، على الرغم من تعقيدات المشهد الراهن، لا بد من أن يتحلى الساسة والقادة وجميع أطياف المجتمع السياسي السوري بالتروي والصبر والحكمة، وتفويت الفرص على المتربصين والمندسين والطامعين، لينكب الشعب السوري بإرادة قوية وعزيمة لا تلين على إعادة بناء وترميم ما دمره "الربيع العربي" المشؤوم من مقدرات سورية من الثروات الطبيعية والبشرية، لتصبح عودة السوريين الذين شردتهم سياسات بشار ممكنة، إلى دولة آمنة جديدة تنشر العدل والمساواة، وتحمي الأقليات العرقية والدينية.
مما لا شك فيه أن التطورات السورية وانكسار الجيش الوطني قد أضافت المزيد من القتامة إلى المشهد العربي المتردي، في وقت تنزف فيه الأمة العربية الكثير من دماء الأبرياء في فلسطين ولبنان. وعلى الرغم من تريث بعض الدول في اتخاذ موقف واضح من "سورية الجديدة"؛ فإن الفرصة أمام السوريين عظيمة جداً في البدء في إيجاد حلول جذرية لمشكلات سورية – الأرض والشعب على حد سواء. وهو أمر ليس بالمستعصي، إذ يتطلب وحدة وطنية صادقة، وتفاهماً عميقاً بين جميع فئات الشعب السوري دون استثناء، وبسط دبلوماسية ذكية تستعيد علاقات سورية الخارجية، وتعيد دمشق إلى قلب الحراك العربي والدولي. ويبقى السؤال المطروح: إلى أين ستتجه سورية، بعيداً عن التسرع في التحليلات والتخمينات والترجيحات؟ ومتى ستنتهي المظاهر المسلحة، ويتوقف عبث الجماعات المتطرفة؟ الأكيد الذي لا جدال فيه أن كل الآمال معلقة على ألا تنتقل سورية من حكم "البعث" إلى حالة من "العبثية" والفوضى.
لذلك، يجب على سورية الجديدة أن تبتعد عن سياسة المحاور والتحالفات الضارة وغير المنتجة؛ إذ إن التعاون العربي والدولي يتطلب مراعاة أي خطوط حمراء تتعلق بأمن سورية ومحيطها وهويتها وتنوعها الثقافي والاجتماعي. وهي مهمة جلية أعتقد أن سورية الجديدة عليها أن تدركها تمام الإدراك حتى ترسخ نظامها الجديد، الذي نأمل أن يتعافى سريعاً من الأعباء الثقيلة التي أورثها بشار ومن قبله والده وجرائم حزب "البعث" على مدى ستة عقود مضت. وهي مهمة لا شك بأن السوريين قادرون على القيام بها، في ظل فسيفساء التنوع الحضاري والثقافي الذي تزدهر به سورية، وذلك بسن قوانين وتشريعات مدنية ترسخ مبدأ المساواة والعدالة الاجتماعية للجميع دون تمييز أو استثناء.
